الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(فَائِدَةٌ) جُمْلَةُ عَدَدِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَلَائِدِ الْمَرْجَانِ لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ قَالَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهَا ثَلَثُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةُ آلَافِ وَسَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ , وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَمِائَتَانِ وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا , وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ وَعَدَدُ كَلِمَاتِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَتِسْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ , وَقِيلَ سَبْعُونَ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ , وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ: وَعَدَدُ نُقَطِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا وَأَحَدٌ وَثَمَانُونَ . وَعَدَدُ آيَاتِهِ سِتَّةُ آلَافِ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ , وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . وَعَدَدُ جَلَالَتِهِ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ , وَعَدَدُ سُوَرِهِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ . وَيُقَالُ نِصْفُ الْقُرْآنِ بِالْحُرُوفِ حَرْفُ الْفَاءِ مِنْ قوله تعالى فِي الْكَهْفِ وَلْيَتَلَطَّفْ أَوْ لَقَدْ جِئْت شَيْئًا نُكُرًا . وَنِصْفُهُ بِالْآيَاتِ قَوْلُهُ فِي الشُّعَرَاءِ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ . وَنِصْفُهُ بِالسُّوَرِ قَدْ سَمِعَ . وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا جَلَالَةٌ . وَأَطْوَلُ آيَةٍ فِيهِ آيَةُ الدَّيْنِ . وَأَقْصُرُ آيَةٍ ثُمَّ نَظَرَ . وَأَطْوَلُ كَلِمَةٍ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَغَيِّرْ بِغَيْرِ الْأَسْوَدِ الشَّيْبَ وابقه وَلِلْقَزَعِ اكْرَهْ ثُمَّ تَدْلِيسَ نهد (وَغَيِّرْ) أَنْتَ اسْتِحْبَابًا (بِغَيْرِ) الْخِضَابِ (الْأَسْوَدِ الشَّيْبَ) مَفْعُولُ غَيِّرْ , فَيُسَنُّ خِضَابُ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ بِفَتْحِ الْكَافِّ وَالتَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْمَشْهُورُ التَّخْفِيفُ كَمَا فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ , هُوَ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ وَيُصْبَغُ بِهِ الشَّعْرُ . وَقِيلَ هُوَ الْوَسْمَةُ , وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ يَصْبُغُ بِالْكَتَمِ . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ اسْتِعْمَالُ الْكَتَمِ مُفْرَدًا عَنْ الْحِنَّاءِ , فَإِنَّ الْحِنَّاءَ إذَا خُضِّبَ بِهِ مَعَ الْكَتَمِ جَاءَ أَسْوَدَ وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ السَّوَادِ . قَالَ وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ بِالْحِنَّاءِ أَوْ الْكَتَمِ عَلَى التَّخْيِيرِ , وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ . انْتَهَى . وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الْكَتَمُ بِفَتْحَتَيْنِ نَبْتٌ فِيهِ حُمْرَةٌ يُخْلَطُ بِالْوَسْمَةِ وَيُخْتَضَبُ بِهِ لِلسَّوَادِ وَقَدْ قِيلَ هُوَ الْوَسْمَةُ . وَفِي كُتُبِ الطِّبِّ: الْكَتَمُ مِنْ نَبَاتِ الْجِبَالِ وَرَقُهُ كَوَرَقِ الْآسِ يُخْضَبُ بِهِ مَدْقُوقًا وَلَهُ ثَمَرٌ قَدْرُ الْفِلْفِلِ , وَيَسْوَدُّ إذَا نُضِحَ , وَقَدْ يُعْتَصَرُ مِنْهُ دُهْنٌ يُسْتَصْبَحُ بِهِ فِي الْبَوَادِي . انْتَهَى . وَالْحِنَّاءُ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ حِنَّاءَةٌ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَمْعُ الْحِنَّاءِ حِنَاتٌ بِالْكَسْرِ , يُقَالُ حنأت رَأْسِي مَهْمُوزًا وَحَنَّاهُ تَحَنِّيًا وتحنية . وَالْيُرَنَّاءُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَمْدُودَةً , يُقَالُ يَرْنَأَ أَيْ صَبَغَ بِالْيُرَنَّاءِ وَهُوَ نَبْتٌ كَالسِّدْرِ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ بِبِلَادِ مِصْرَ وَوَرَقُهُ شَبِيهٌ بِوَرَقِ الْآسِ , يُؤْخَذُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ , وَأَصْلُهُ يُسَمَّى البلند كسمند كَمَا فِي الرَّوْضَةِ الْغَنَّاءِ فِي مَنَافِعِ الْحِنَّاءِ لِسِبْطٍ الْمَرْصَفِيِّ , وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الْحِنَّاءُ نَبْتٌ يُزْرَعُ وَلَا يُوجَدُ بِدُونِ الْمَاءِ وَيَعْظُمُ حَتَّى يُقَارِبَ الشَّجَرَ الْكِبَارَ بِجَزَائِرِ السُّوَيْسِ وَمَا يَلِيهَا , وَرَقُهُ كَوَرَقِ الزَّيْتُونِ لَكِنَّهُ أَعْرَضُ يَسِيرًا وَنَوْرُهُ أَبْيَضُ , وَإِذَا أُطْلِقَتْ الْفَاغِيَةُ فَالْمُرَادُ زَهْرُهُ وَالْحِنَّاءُ فَوَرَقُهُ , وَلَيْسَ لِعِيدَانِهِ نَفْعٌ , وَأَجْوَدُهُ الْخَالِصُ الْحَدِيثُ , وَتَبْطُلُ قُوَّتُهُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ , وَلَا يَكُونُ سَحْقُهُ بِدُونِ الرَّمَلِ فَيَنْبَغِي تَرْوِيقُهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ وَلَيْسَ فِي الْمُخَضَّبَاتِ أَكْثَرُ سَرَيَانًا مِنْهُ إذَا خُضِبَتْ بِهِ الرِّجْلُ أَوْ الْيَدُ اشْتَدَّتْ حُمْرَةُ الْبَوْلِ بَعْد عَشْرِ دَرَجٍ , فَبِذَلِكَ يَطْرُدُ الْحَرَارَةَ وَيَفْتَحُ السُّدَدَ وَهُوَ يُصْلِحُ الشَّعْرَ خُصُوصًا بِمَاءِ الْكَسْفَرَةِ وَالزِّفْتِ .
(نَادِرَةٌ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَخَبِ الْمُنْتَخَبِ: إنْ قَالَ قَائِلٌ هَلْ تَعْرِفُونَ أَرْبَعَةً رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسَقًا؟ فَالْجَوَابُ أَبُو قُحَافَةَ , وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ , وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَيُكْنَى أَبَا عَتِيقٍ , لَا يُعْرَفُ سِوَاهُمْ . انْتَهَى وَمُرَادُهُ مِنْ الرِّجَالِ , وَإِلَّا فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ , وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ , وَأَبُوهَا الصِّدِّيقُ , وَأَبُوهُ أَبُو قُحَافَةَ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ . قُلْت: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ لَهُ ابْنٌ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ أَعْرِفْ اسْمَهُ وَلَعَلَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ , وَأَبُوهُ أُسَامَةُ , وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِ . فَهَذِهِ النَّادِرَةُ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا فَلَا يُوجَدُ فِي الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْنَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ أَحَدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَابْنُ الْجَوْزِيِّ كَانَ عَلَى أَتَمِّ غَايَةٍ مِنْ سَعَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَنْقُولِ , وَالْعِلْمِ بِالْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ , وَجَوْدَةِ الْخَاطِرِ وَإِدْرَاكِ الْمَعْقُولِ . قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَطِيفَ الصَّوْتِ , حُلْوَ الشَّمَائِلِ , رَخِيمَ النَّغْمَةِ , مَوْزُونَ الْحَرَكَاتِ وَالنَّغَمَاتِ , لَذِيذَ الْمُفَاكَهَةِ , يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ , لَا يُضَيِّعُ مِنْ زَمَانِهِ شَيْئًا , يَكْتُبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعَ كَرَارِيسَ , يَرْتَفِعُ لَهُ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ كِتَابَتِهِ مَا بَيْنَ خَمْسِينَ مُجَلَّدًا إلَى سِتِّينَ , وَلَهُ فِي كُلِّ عِلْمٍ مُشَارَكَةٌ , لَكِنَّهُ كَانَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ الْأَعْيَانِ , وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ الْحُفَّاظِ , وَفِي التَّوَارِيخِ مِنْ الْمُتَوَسِّعِينَ , وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ رضي الله عنه أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا مِثْلُ كِتَابِي هَذَا , وَهُوَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى فَضَائِلِهِ مِثْلِي , نَادِرَةُ الزَّمَانِ , وَإِنْسَانُ سَوَادِ عَيْنِ الْإِنْسَانِ , وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ أَوْ بَعْضِهَا , عَلِمَ بُعْدَ غَوْرِهِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ وَنَقْلِهَا . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
(وَابِقِهِ) أَيْ الشَّيْبَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ نَتْفَ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ اتِّفَاقًا . وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ يَحْرُمُ لِلنَّهْيِ لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ . انْتَهَى . وَقَطَعَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ . وَلَفْظُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَفِي رِوَايَةٍ " كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَفْظُهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ: إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَبَقِيَّةُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ رِجَالًا يَنْتِفُونَ الشَّيْبَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَاءَ فَلْيَنْتِفْ نُورَهُ " . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْسَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْإِمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ " كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ " . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ شَابَ شَيْبَةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً , وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً , وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً " . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ " أَيُّمَا مُسْلِمٍ نَتَفَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ مُتَعَمِّدًا صَارَتْ رُمْحًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطْعَنُ بِهِ " فَغَيْرُ ثَابِتٍ . وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورٍ الْكَاتِبِ فِي نَتْفِ الشَّيْبِ: أَمُدُّ كَفِّي إلَى الْبَيْضَاءِ أَقْلَعُهَا مِنْ لِحْيَتِي فَتَفْدِيهَا بِسَوْدَاءَ هَذِي يَدِي وَهِيَ مِنِّي لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى مُرَادِي فَمَا ظَنِّي بِأَعْدَائِي .
(فَوَائِدُ: الْأُولَى) أَوَّلُ مَنْ شَابَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ , عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ , فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ تَعَالَى: هَذَا وَقَارُك , فَقَالَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا , فَمَا بَرِحَ حَتَّى ابْيَضَّتْ لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ . وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَبْلُغُ الْهَرَمَ وَلَمْ يَشِبْ , وَكَانَ فِي الْقَوْمِ وَالِدٌ وَوَلَدٌ فَلَا يُعْرَفُ الِابْنُ مِنْ الْأَبِ , فَقَالَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي شَيْئًا أُعْرَفُ بِهِ , فَأَصْبَحَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ أَبْيَضَيْنِ أَزْهَرَيْنِ أَنْوَرَيْنِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا رَجَعَ مِنْ تَقْرِيبِ وَلَدِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَأَتْ سَارَةُ فِي لِحْيَتِهِ شَعْرَةً بَيْضَاءَ , وَكَانَ عليه الصلاة والسلام أَوَّلَ مَنْ شَابَ , فَأَنْكَرَتْهَا وَأَرَتْهُ إيَّاهَا فَجَعَلَ يَتَأَمَّلُهَا فَأَعْجَبَتْهُ , وَكَرِهَتْهَا سَارَةُ وَطَالَبَتْهُ بِإِزَالَتِهَا فَأَبَى , وَأَتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا إبْرَاهِيمُ , وَكَانَ اسْمُهُ إبْرَامَ فَزَادَهُ فِي اسْمِهِ هَاءً . وَالْهَاءُ فِي السُّرْيَانِيَّةِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ: فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَقَالَ أَشْكُرُ إلَهِي وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ , فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ صَيَّرَك مُعَظَّمًا فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ , وَقَدْ وَسَمَكَ بِسِمَةِ الْوَقَارِ فِي اسْمِك وَفِي خَلْقِك أَمَّا اسْمُك فَلِأَنَّك تُدْعَى فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ إبْرَاهِيمُ , وَأَمَّا خَلْقُك فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ نُورًا وَوَقَارًا عَلَى شَعْرِك . فَأَخْبَرَ سَارَةَ بِمَا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي كَرِهْتِيهِ نُورٌ وَوَقَارٌ . قَالَتْ: فَإِنِّي كَارِهَةٌ لَهُ , قَالَ لَكِنِّي أُحِبُّهُ اللَّهُمَّ زِدْنِي وَقَارًا وَنُورًا , فَأَصْبَحَ وَقَدْ ابْيَضَّتْ لِحْيَتُهُ كُلُّهَا . وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ أُمَامَةَ قَالَ: بَيْنَمَا إبْرَاهِيمُ عليه السلام ذَاتَ يَوْمٍ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى إذَا نَظَرَ إلَى كَفٍّ خَارِجَةٍ مِنْ السَّمَاءِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهَا شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى دَنَتْ مِنْ رَأْسِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام . فَأَلْقَتْ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَتْ أَشْعِلْ وَقَارًا . وَفِي رِوَايَةٍ أَشْعِلْ خَدَّهُ فَأُشْعِلَ رَأْسُهُ مِنْهَا شَيْبًا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنْ يَتَطَهَّرَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَوْحَى إلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَوْحَى إلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ فَاخْتَتَنَ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام أَوَّلَ مَنْ شَابَ وَاخْتَتَنَ . وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النِّسَاءِ وَعَادَتُهُنَّ عَلَى كَرَاهِيَةِ الشَّيْبِ وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي الْعِيَانِ . وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ الْفَحْلُ الْجَاهِلِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ طَوِيلَةٍ مِنْ الطَّوِيلِ مَطْلَعُهَا: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبٌ بَعِيدُ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبٌ إلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ فَلَيْسَ لَهُ فِي وُدِّهِنَّ نَصِيبُ يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْمَخْزُومِيُّ فِي ذَلِكَ: قَالَتْ أُحِبُّك قُلْت كَاذِبَةً غُرِّي بِذَا مَنْ لَيْسَ يَنْتَقِدُ لَوْ قُلْت لِي أشناك قُلْت نَعَمْ الشَّيْبُ لَيْسَ يُحِبُّهُ أَحَدٌ وَقَدْ تَلَطَّفَ مَنْ قَالَ وَأَفَادَ اسْتِجْلَابَ وُدِّهِنَّ بِالْمَالِ: وَخُودٌ دَعَتْنِي إلَى وَصْلِهَا وَعَصْرُ الشَّبِيبَةِ مِنِّي ذَهَبَ فَقُلْت مَشِيبِي لَا يَنْطَلِي فَقَالَتْ بَلَى يَنْطَلِي بِالذَّهَبِ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الْبَصْرِيُّ وَأَنْشَدَهُمَا الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ الْخَبِيثَ: فَمَا مِنْك الشَّبَابُ وَلَسْت مِنْهُ إذَا سَأَلَتْك لِحْيَتُك الخضابا وَمَا يَرْجُو الْكَبِيرُ مِنْ الْغَوَانِي إذَا ذَهَبَتْ شَبِيبَتُهُ وَشَابَا فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ الْخَبِيثُ فَضَحَتْنَا عِنْدَ النِّسَاءِ وَقَالُوا: وَخَيَّرَهَا أَبُوهَا بَيْنَ شَيْخٍ كَثِيرِ الْمَالِ أَوْ حَدَثٍ صَغِيرِ فَقَالَتْ إنْ عَزَمْت فَكُلُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَجْهِ الْكَبِيرِ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَمَّا رَأَيْت شَيْبَ رَأْسِي بَدَا فَقَالَتْ عَسَى غَيْرَ هَذَا عَسَى فَقُلْت الْبَيَاضُ لِبَاسُ السُّرُورِ وَأَمَّا السَّوَادُ لِبَاسُ الْأَسَى فَقَالَتْ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ قَلِيلُ النِّفَاقِ بِسُوقِ النِّسَا وَقَالَ آخَرُ: لَكَلْبٌ عَقُورٌ أَسْوَدُ اللَّوْنِ حَالِكٌ عَلَى صَدْرِ سَوْدَاءِ الذَّوَائِبِ كَاعِبِ أَحَبُّ إلَيْهَا مِنْ مُعَانَقَةِ الَّذِي لَهُ لِحْيَةٌ بَيْضَاءُ بَيْنَ التَّرَائِبِ (الثَّانِيَةُ) قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ دَدَهْ فِي أَوَائِلِهِ: أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام , وَفِي أَوَائِلِهِ كَالسُّيُوطِيِّ: أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ . وَأَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضي الله عنه , خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَكَانَ عَهْدُهُمْ أَنَّهُ أَبْيَضُ الشَّعْرِ , فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُ . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالْوَسْمَةِ بِمَكَّةَ عَبْدُ المطلب , قِيلَ لَهُ لَمَّا نَزَلَ الْيَمَنَ هَلْ لَك أَنْ تُغَيِّرَ هَذَا الْبَيَاضَ فَتَعُودُ شَابًّا , فَخَضَّبَ فَدَخَلَ مَكَّةَ كَأَنَّ شَعْرَهُ حَلْكُ غُرَابٍ , فَقَالَ لَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ يَا شَيْبَةَ الْحَمْدِ لَوْ دَامَ لَك هَذَا لَكَانَ حَسَنًا , فَأَنْشَدَ عَبْدُ المطلب: فَلَوْ دَامَ لِي هَذَا السَّوَادُ حَمِدْته فَكَانَ بَدِيلًا مِنْ شَبَابٍ قَدْ انْصَرَمَ تَمَتَّعْت مِنْهُ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ مَوْتٍ تَبْكِيه أَوْ هرم وَمَاذَا الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمَرْءِ حِفْظُهُ وَنِعْمَتُهُ دَوْمًا إذَا عَرْشُهُ انْهَدَمَ وَمِنْ شِعْرِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيِّ , عَلَى مَا نَقَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفْدِيُّ فِي الْوَافِي بِالْوَفِيَّاتِ قَوْلُهُ: عَيَّرَتْنِي بِالشَّيْبِ وَهْوَ وَقَارُ لَيْتَهَا عَيَّرَتْ بِمَا هُوَ عَارُ إنْ تَكُنْ شَابَتْ الذَّوَائِبُ مِنِّي فَاللَّيَالِي تُنِيرُهَا الْأَقْمَارُ قُلْت: وَقَدْ نَسَبَ الْأَبْيَاتَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ لِيَحْيَى بْنِ نَصْرٍ السَّعْدِيِّ الْبَغْدَادِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ وَذَكَرَ لَهُ قَبْلَهُمَا قَوْلَهُ: لَوْ كُنْت ذَا مَالٍ وَذَا ثَرْوَةٍ وَالشَّيْبُ مَا آنَ وَلَا قِيلَ كَادَ لَجَامَلَتْ جَمَلٌ بِمِيعَادِهَا وَسَاعَدَتْ بِالْوَصْلِ مِنْهَا سُعَادُ وَيُعْجِبنِي مِنْ شِعْرِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ رحمه الله تعالى قَوْلُهُ: إذَا مَرِضْنَا نَوَيْنَا كُلَّ صَالِحَةٍ وَإِنْ شُفِينَا فَمِنَّا الزَّيْغُ وَالزَّلَلُ نُرْضِي الْإِلَهَ إذَا خِفْنَا ونعصيه إذَا أَمِنَّا فَمَا يَزْكُو لَنَا عَمَلُ وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الشَّمْعَةِ: وَصَفْرَاءُ مِثْلِي فِي الْقِيَاسِ وَدَمْعُهَا سِجَامٌ عَلَى الْخَدَّيْنِ مِثْلُ دُمُوعِي تَذُوبُ كَمَا فِي الْحُبِّ ذَابَتْ صَبَابَةً وَتَحْوِي حَشَاهَا مَا حَوَتْهُ ضُلُوعِي وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِمَامُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَزِيرَهُ وَوَزِيرَ وَالِدِهِ مِنْ قَبْلِهِ الْمُقْتَفِي رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . (الثَّالِثَةُ) ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّذِيرَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى هَذَا أَشَرْت فِي قَصِيدَةٍ لِي: فَوَا أَسَفَى ذَهَبَ الشَّبَابُ وَحَلَّ بِي نَذِيرٌ أَتَانِي أَنَّنِي سَوْفَ أَذْهَبُ وَلِي فِي أُخْرَى: إلَيْك أَشْكُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْ وَجَلِي نَأَى شَبَابِي سُدًى وَاحْتَاطَ بِي أَجَلِي نَأَى الشَّبَابُ وَجَاءَ الشَّيْبُ يُنْذِرُنِي بِأَنَّنِي رَاحِلٌ لِلْقَبْرِ وَا خَجَلِي وَأَخْجَلَنِي مِنْ مَقَامٍ لَسْت أنكره إذَا بَدَا لِي عَلَى رُوسِ الْمَلَا زَلَلِي يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْ بِيَدِي إنِّي أَتَيْت بِلَا عِلْمٍ وَلَا عَمَلِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ رِزْقُ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ 488 كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ: وَمَا شَنَآنُ الشَّيْبِ مِنْ أَجْلِ لَوْنِهِ وَلَكِنَّهُ حَادٍ إلَى الْبَيْنِ مُسْرِعٌ إذَا مَا بَدَتْ مِنْهُ الطَّلِيعَةُ آذَنَتْ بِأَنَّ الْمَنَايَا خَلْفَهَا تَتَطَلَّعُ فَإِنْ قَصَّهَا الْمِقْرَاضُ صَاحَتْ بِأُخْتِهَا فَتَظْهَرُ تَتْلُوهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُ وَإِنْ خُضِّبَتْ حَالَ الْخِضَابِ ; لِأَنَّهُ يُغَالِبُ صُنْعَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَصْنَعُ فَيُضْحِي كَرِيشِ الدِّيكِ فِيهِ تَلَمُّعُ وَأَفْظَعُ مَا يُكْسَاهُ ثَوْبٌ مُلَمَّعُ إذَا مَا بَلَغْت الْأَرْبَعِينَ فَقُلْ لِمَنْ يَوَدُّك فِيمَا تَشْتَهِيه وَيُسْرِعُ هَلُمُّوا لِنَبْكِيَ قَبْلَ فُرْقَةِ بَيْنِنَا فَمَا بَعْدَهَا عَيْشٌ لَذِيذٌ وَمَجْمَعُ وَخَلِّي التَّصَابِي وَالْخَلَاعَةَ وَالْهَوَى وَأُمَّ طَرِيقَ الْحَقِّ فَالْحَقُّ أَنْفَعُ وَخُذْ جُنَّةً تُنْجِي وَزَادًا مِنْ التُّقَى وَصُحْبَةَ مَأْمُونٍ فَقَصْدُك مُفْزِعُ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ مَا بَكَتْ عَلَى شَيْءٍ مَا بَكَتْ عَلَى الشَّبَابِ . وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: شَيْئَانِ لَوْ بَكَتْ الدُّمُوعَ عَلَيْهِمَا عَيْنَايَ حَتَّى يُؤْذِنَا بِذَهَابِ لَمْ يَبْلُغَا الْمِعْشَارَ مِنْ حَقَّيْهِمَا فَقْدُ الشَّبَابِ وَفُرْقَةُ الْأَحْبَابِ وَمِنْ الْبُكَاءِ عَلَى الشَّبَابِ قَوْلُ أَبِي الْغُصْنِ الْأَسْدِيِّ وَهُوَ أَبْكَى بَيْتٍ قِيلَ فِيهِ: تَأَمَّلْ رَجْعَةَ الدُّنْيَا سِفَاهًا وَقَدْ صَارَ الشَّبَابُ إلَى الذَّهَابِ فَلَيْتَ الْبَاكِيَاتِ بِكُلِّ أَرْضٍ جُمِعْنَ لَنَا فَنُحْنَ عَلَى الشَّبَابِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُرْتَضَى: ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى بِأَعْيُنِ كَأْسِهِ رَجُلٌ تَخَوَّنَهُ الزَّمَا نُ بِبُؤْسِهِ وَبِبَأْسِهِ فَجَرَى عَلَى غُلَوَائِهِ طَلْقَ الْجُمُوحِ بِفَأْسِهِ وَمِنْ كَلَامِ دِعْبِلٍ فِي الشَّيْبِ: أَيْنَ الشَّبَابُ وَأَيَّةُ سَلَكَا لَا أَيْنَ يُطْلَبُ ضَلَّ بَلْ هَلَكَا لَا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى يَا سَلْمُ مَا بِالْمَشِيبِ مَنْقَصَةٌ لَا سُوقَةً يُبْقِي وَلَا مَلِكًا قَصْرُ الغواية عَنْ هَوَى قَمَرٍ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ مُشْتَرَكَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَحْسَنَ: إذَا كَانَ الْبَيَاضُ لِبَاسَ حُزْنٍ بِأَنْدَلُسَ فَذَاكَ مِنْ الصَّوَابِ أَلَمِ تَرَنِي لَبِسْت ثِيَابَ شَيْبِي لِأَنِّي قَدْ حَزِنْت عَلَى الشَّبَابِ .
(الرَّابِعَةُ) كَانَ الشَّيْبُ الَّذِي فِي شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ , مَعَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْغَرَ مِنْهُ سِنًّا كَالصِّدِّيقِ قَدْ شَابُوا . قَالُوا وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لُطْفُ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ بِنِسَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُنَّ ; لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنْ تَنْفِرَ طِبَاعُهُنَّ مِنْ الشَّيْبِ , وَمَنْ نَفَرَ طَبْعُهُ مِنْ الرَّسُولِ خُشِيَ عَلَيْهِ , فَلَطَفَ اللَّهُ بِهِنَّ فَلَمْ يَشِبْ شَيْبًا تَعَافُهُ النِّسَاءُ . مَعَ أَنَّ الشَّيْبَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ غَيْرُ مُنَفِّرٍ وَلَكِنْ جَلَّتْ حِكْمَةُ الْبَارِي . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إنَّ اللَّهَ لِيَسْتَحْيِ أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ , ثُمَّ بَكَى الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام , فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَبْكِي مِمَّنْ يَسْتَحْيِ اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظٍ يَقُولُ اللَّهُ " إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ عَبْدِي وَأَمَتِي يَشِيبَانِ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُعَذِّبُهُمَا " الْحَدِيثَ . وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الموضوعات وَتُعُقِّبَ . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ . وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا . وَذَكَرَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه بِلَا سَنَدٍ مَرْفُوعًا " مَنْ لَمْ يَرْعَوِ عِنْدَ الشَّيْبِ , وَيَسْتَحْيِ مِنْ الْعَيْبِ , وَلَمْ يَخْشَ اللَّهَ فِي الْغَيْبِ , فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ " . فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكْرَهَ الشَّيْبَ ; لِأَنَّهُ نُورُ الْإِسْلَامِ , وَوَقَارٌ مِنْ الْمَلِكِ السَّلَامِ . وَلَا تَغْتَرُّ بِفَسَقَةِ الشعار وَمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَشْعَارِ , مِثْلُ قَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ صَابِرٍ الْمَنْجَنِيقِيِّ كَمَا فِي الْوَافِي بِالْوَفِيَّاتِ: قَالُوا بَيَاضُ الشَّيْبِ نُورٌ سَاطِعٌ يَكْسُو الْوُجُودَ مَهَابَةً وَضِيَاءَ حَتَّى سَرَتْ وخطاته فِي مَفْرِقِي فَوَدِدْت أَنْ لَا أَفْقِدَ الظَّلْمَاءَ وَعَدَلْت أَسْتَبْقِي الشَّبَابَ تَعَلُّلًا بِخِضَابِهَا فَصَبَغْتهَا سَوْدَاءَ لَوْ أَنَّ لِحْيَةَ مَنْ يَشِيبُ صَحِيفَةٌ لِمَعَادِهِ مَا اخْتَارَهَا بَيْضَاءَ وَقَوْلُ شِهَابِ الدِّينِ التَّلَعْفَرِيِّ فِي ذَلِكَ: لَا تَعْجَلَنَّ فَوَاَلَّذِي جَعَلَ الدُّجَى مِنْ لَيْلِ طُرَّتِي الْبَهِيمِ ضِيَاءَ لَوْ أَنَّهَا يَوْمَ الْمَعَادِ صَحِيفَتِي مَا سَرَّ قَلْبِي كَوْنَهَا بَيْضَاءَ . وَلَكِنْ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ مِصْبَاحِ الْهُدَى وَمَاحِي الضَّلَالَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ " أَنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ " وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ , وَتَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُمَا , وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ اخْتَرَعَ عِلْمَ الْبَدِيعِ حَيْثُ يَقُولُ فِي تَائِيَّتِهِ: وَكُنْت أَمْرًَا مِنِّي التَّصَابِي الَّذِي يُرَى وَقَدْ بَلَغَتْ سِنِّي النُّهَى فتناهيت وَقُلْت أَيَا نَفْسِي وَهَلْ بَعْدَ شَيْبَةٍ نَذِيرٌ فَمَا عُذْرِي إذَا مَا تماديت وَقَدْ أَبْصَرَتْ عَيْنِي الْمَنِيَّةَ تَنْتَضِي سُيُوفَ مَشِيبِي فَوْقَ رَأْسِي فأشفيت فَخَلَّيْت شَيْطَانَ التَّصَابِي لِأَهْلِهِ وَأَدْبَرْت عَنْ شَأْنِ الْغَوِيِّ ووليت وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُو إلَى الرَّدَى فَقُلْت أَرَانِي قَدْ قَرُبْت ودانيت تَبَدَّلَ قَلْبِي مَا تَبَدَّلَ مَفْرِقِي بَيَاضُ النقا فَقَدْ نَزَعْت وَأَبْقَيْتُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي جُزْئِهِ تَنْبِيهُ النَّائِمِ الْغَمْرُ عَلَى مَوْسِمِ الْعُمْرِ لِنَفْسِهِ: قَدْ رَأَيْت الْمَشِيبَ نُورًا تَبَدَّى نَوَّرَ الطُّرُقَ ثُمَّ مَا إنْ تَعَدَّى إنَّ ثَوْبَ الشَّبَابِ عَارِيَةٌ عِنْدِي فَجَاءَ الْمُعِيرُ حَتَّى اسْتَرَدَّا جَاءَنِي نَاصِحٌ أَتَانِي نَذِيرُ بَيَاضٍ أَرَانِي الْأَمْرَ جَدًّا دَعْ حَدِيثَ الصِّبَا ورامة وَالْغَوْرَ وَنَجْدَ يَا سَعْدُ وَاهْجُرْ سُعْدا ثُمَّ خَلِّي حَدِيثَ لَيْلَى وَنِعْمَ وَسُعَادَ وَدِّعْ فديتك دعدا وَتَزَوَّدْ زَادَ الشِّتَاءِ فَقَدْ فَاتَ رَبِيعٌ ضَيَّعْت فِيهِ الْوَرْدَا قِفْ عَلَى الْبَابِ سَائِلًا عَفْوَ مَوْلَاك فَمَا إنْ يَرَاك يَرْحَمُ عَبْدًا . وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: أَفِقْ يَا قَلْبُ مِنْ خَمْرِ التَّصَابِي فَقَدْ آن الرَّحِيلُ وَأَنْتَ صَابِي وَبَادَ الْعُمْرُ فِي حُبِّ الْغَوَانِي وَرَبَّاتِ الْبَرَاقِعِ وَالنِّقَابِ فَمِنْ سِنِّ الصِّبَا فِي اللَّهْوِ حَتَّى بَدَا وازفرتي هَذَا التَّغَابِي وَأَخْبَارُ الشَّيْبِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ , وَأَشْهُرُ مِنْ أَنْ تُشْهَرَ , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ أَدْرَكَتْهُ الْعِنَايَةُ .
(وَ) يُشْرَعُ أَيْضًا (إيجَافُ) أَيْ إغْلَاقُ (أَبْوَابٍ) جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ الْفُرْجَةُ الْمُتَوَصَّلُ مِنْهَا إلَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَإِغْلَاقُ الْبَابِ أَيْ يُسَنُّ , وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ وَيُرْخِيَ السِّتْرَ . قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْبَلْبَانِيُّ فِي آدَابِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ: يُسَنُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَنْ يوكئ سِقَاهُ , وَيُطْفِئَ سِرَاجَهُ , وَيُغْلِقَ بَابَهُ , وَكَذَا فِي الْإِقْنَاعِ: يُسَنُّ تَخْمِيرُ الْإِنَاءِ وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا وَإِيكَاءُ السِّقَاءِ إذَا أَمْسَى , وَإِغْلَاقُ الْبَابِ , فَقَيَّدَ بِالْمَسَاءِ , وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا (و) يُشْرَعُ (طَفْءُ) أَيْ إطْفَاءُ (الْمُوَقَّدِ) بِتَشْدِيدِ الْقَافِ يَعْنِي النَّارَ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الوقد مُحَرَّكَةً النَّارُ وَاتِّقَادُهَا كَالْوَقْدِ وَالْوُقُودِ وَالْقِدَةِ وَالْوَقَدَانِ وَالتَّوَقُّدِ وَالِاسْتِيقَادِ وَالْفِعْلُ وَقَدَ كَوَعَدَ , وَالْوَقُودُ كَصَبُورٍ الْحَطَبُ . وَكَلَامُهُ رحمه الله يَشْمَلُ الْمِصْبَاحَ وَغَيْرَهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ " احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ اللَّيْلِ , فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إنَّ هَذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ " . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ " جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا قَدْرَ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ " الْخُمْرَةُ السَّجَّادَةُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْوَجْهَ أَيْ تُغَطِّيهِ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ " جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَذَهَبَتْ الْجَارِيَةُ تَزْجُرُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعِيهَا فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقُكُمْ " قال الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِطْفَاءِ النَّارِ عِنْدَ النَّوْمِ , وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ . قَالَ صَدْرُ الْوُزَرَاءِ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ طَيَّبَ اللَّهُ رُوحَهُ: النَّارُ يُسْتَحَبُّ إطْفَاؤُهَا عِنْدَ النَّوْمِ ; لِأَنَّهَا عَدُوٌّ , فَأَمَّا إنْ جُعِلَ الْمِصْبَاحُ فِي شَيْءٍ مُعَلَّقٍ أَوْ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ لَا تَصِلُ الْفُوَيْسِقَةُ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ .انْتَهَى . وَذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّلَ إطْفَاءَ الْمِصْبَاحِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِ الْفُوَيْسِقَةِ , فَإِذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا صلى الله عليه وسلم زَالَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ أَوْكِ سِقَاكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ . . إلَخْ . وَذِكْرُ اسْمِهِ جَلَّ شَأْنُهُ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا لِتَكُونَ حَرَكَاتُ الْمُكَلَّفِ مَصْحُوبَةً بِذَكَرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ عَنْ ابْنَةِ الْحَجَّاوِيِّ رحمه الله تعالى أَنَّ وَالِدَهَا أَفَادَهَا أَنَّهَا إذَا لَمْ تَجِدْ مَا تُغَطِّي بِهِ الْإِنَاءَ تَضَعُ يَدَهَا عَلَيْهِ فَتَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ هَذَا غِطَاؤُك يَعْنِي أَنَّهَا غَطَّتْهُ بِفَضْلِ الْبَسْمَلَةِ , وَذَلِكَ مِنْهُ إمَّا لِتَعْتَادَ التَّغْطِيَةَ فَلَا تُهْمِلُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي تَعْرِيضِ الْعُودِ , وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِبَرَكَةِ اسْمِ الْمَعْبُودِ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ . (الثَّانِي) إطْلَاقُ نَظْمِهِ رحمه الله تعالى يَتَنَاوَلُ فِعْلَ ذَلِكَ مَسَاءً وَنَهَارًا , فَلَا يَتَقَيَّدُ بِكَوْنِهِ إنَّمَا يُنْدَبُ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ وَقَيَّدَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ بِالْمَسَاءِ وَهُوَ صَرِيحُ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ . قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ كَأَصْلِهِ: وَسِيَاقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ يَخُصُّ اللَّيْلَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ . قَالَ وَالْمُرَادُ إلَّا فِي بَقَاءِ النَّارِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَالْمُرَادُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (الثَّالِثُ) إذَا نَامَ وَلَمْ يُطْفِئْ النَّارَ وَخَالَفَ سُنَّةَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ فَهَلْ يَضْمَنُ مَا تَلَفَ بِهَا لِغَيْرِهِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لَمْ أَجِدْ تَصْرِيحًا بِهَا وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَضْمَنَ لِتَعَدِّيهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ , وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ لَا يَضْمَنُ ; لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ , وَعَادَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَقَاؤُهَا وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ . قَالَ وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي إنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ مَعَ احْتِمَالِ الضَّرَرِ بِالْوَبَاءِ الْوَاقِعِ فِيهِ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ وَقِلَّتِهِ , كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَسْقَى , فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَّا نَسْقِيَك نَبِيذًا؟ فَقَالَ بَلَى , فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى فَجَاءَ بِقَدَحِ نَبِيذٍ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا خَمَّرْته وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا قَالَ فَشَرِبَ " وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ . وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ , ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ نُزُولِ الْوَبَاءِ فِيهِ وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ " غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ إلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ " زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ قَالَ اللَّيْثُ: فَالْأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتَّقُونَ ذَلِكَ فِي كَانُونَ الْأَوَّلِ . قَالَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِيهِ الْوَبَاءُ وَلَا نَعْلَمُ هَلْ يَخْتَصُّ بِالشُّرْبِ أَوْ يَعُمُّ الِاسْتِعْمَالَ وَالشُّرْبَ فَكَانَ تَجَنُّبُهُ أَوْلَى . فَهَذَا مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ شُرْبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ . وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَنْ أَوْقَدَ نَارًا يَصْطَلِي أَوْ يَطْبُخُ أَوْ تَرَكَ سِرَاجًا فَنَامَ فَوَقَعَ حَرِيقٌ فَأَتْلَفَ نَاسًا وَأَمْوَالًا لَمْ يَضْمَنْ , وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ الصَّغَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " النَّارُ جُبَارٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ . قَالَ فَوَجَبَ أَنَّ كُلَّ مَا تَلَفَ بِالنَّارِ هَدَرٌ إلَّا نَارًا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَضْمِينِ صَاحِبِهَا إذَا تَعَمَّدَ الْإِتْلَافَ , فَإِنْ تَعَمَّدَ طَرْحَهَا لِلْإِتْلَافِ فَعَمْدٌ وَإِلَّا فَخَطَأٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا: وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إذَا حَمِدَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَرَدِّ السَّلَامِ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً وَإِلَّا فَفَرْضُ عَيْنٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ " وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعُطَاسَ يَدُلُّ عَلَى خِفَّةِ بَدَنٍ وَنَشَاطٍ , وَالتَّثَاؤُبُ غَالِبًا لِثِقَلِ الْبَدَنِ وَامْتِلَائِهِ وَاسْتِرْخَائِهِ فَيَمِيلُ إلَى الْكَسَلِ , فَأَضَافَهُ إلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّهُ يُرْضِيه , وَمِنْ تَسَبُّبِهِ لِدُعَائِهِ إلَى الشَّهَوَاتِ , يَعْنِي يُشِيرُ إلَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَقُلْ: هَاهْ هَاهْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ " وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ " إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ " . وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ كَمَا فِي الْآدَابِ لِابْنِ مُفْلِحٍ " الْعُطَاسُ مِنْ اللَّهِ وَالتَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ لَمْ يُشَمِّتْهُ " وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ لِتَحْمِيدِهِ فَإِنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ التَّشْمِيتِ الْحَمْدَ فَإِذَا لَمْ يَحْمَدْ لَمْ يُشَمَّتْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ " عَطَسَ عِنْدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ , فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَمَّتَّ فُلَانًا وَلَمْ تُشَمِّتنِي , فَقَالَ: إنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِنَّك لَمْ تَحْمَدْ " . وَقَالَ عليه الصلاة والسلام " إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمِّتُوهُ , فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا تُشَمِّتُوهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ حَقٌّ عَلَى الرَّجُلِ إذَا عَطَسَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ وَأَنْ يُسْمِعَ مَنْ عِنْدَهُ , وَحَقٌّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُشَمِّتُوهُ . انْتَهَى . فَإِنْ شَمَّتَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ كُرِهَ . فَإِنْ عَطَسَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَسَمِعَ الْعُطَاسَ وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَمِدَ اللَّهَ أَمْ لَا قَالَ يَرْحَمُك اللَّهُ إنْ كُنْت حَمِدْت اللَّهَ . قَالَ مَكْحُولٌ: كُنْت إلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَرْحَمُك اللَّهُ إنْ كُنْت حَمِدْت اللَّهَ . فَإِنْ عَطَسَ فَحَمِدَ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ أَحَدٌ فَسَمِعَهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ شُرِعَ لَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ حَتَّى يُسْمِعَهُ . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَسَمِعَ عَاطِسًا عَلَى الشَّطِّ حَمِدَ , فَاكْتَرَى قَارِبًا بِدِرْهَمٍ حَتَّى جَاءَ إلَى الْعَاطِسِ فَشَمَّتَهُ ثُمَّ رَجَعَ , فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَكُونُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ . فَلَمَّا رَقَدُوا سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ إنَّ أَبَا دَاوُدَ اشْتَرَى الْجَنَّةَ مِنْ اللَّهِ بِدِرْهَمٍ . ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ .
(وَلْيُبْدِ) الْعَاطِسُ (رَدَّ الْمُعَوَّدِ) أَيْ الْمُعْتَادِ الْوَارِدِ فِي سُنَّةِ خَيْرِ الْعِبَادِ . فَيَجِبُ عَلَى الْعَاطِسِ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُشَمَّتَ أَنْ يَقُولَ مُجِيبًا لِمَنْ شَمَّتَهُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ , فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَإِنْ زَادَ " وَيُدْخِلُكُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَكُمْ " فَلَا بَأْسَ بِهِ ; لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَهُ , وَذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ وَغَيْرِهِمَا , أَوْ يَقُولُ " يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ " وَقِيلَ يَقُولُ مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ قَالَ " يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ " رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: التَّشْمِيتُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ . وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ غَيْرُهُ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ . وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَالثَّانِي يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ . كَذَا قَالَ . وَصَوَّبَ الشَّيْخُ رضي الله عنه يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ . قَالَ الْقَاضِي: وَيَخْتَارُ أَصْحَابُنَا يَهْدِيكُمْ اللَّهُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُدِيمُ اللَّهُ هُدَاكُمْ . وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَطَسَ سُنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ , أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , كُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يَقُولَ لَهُ جَلِيسُهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ . وَجَازَ الْإِتْيَانُ بِمِيمِ الْجَمْعِ , وَأَنْ يَقُولَ الْعَاطِسُ مُجِيبًا لِمَنْ شَمَّتَهُ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ إلَى آخِرِهِ كَمَا مَرَّ وَهُوَ الْأَفْضَلُ , أَوْ يَقُولَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ , وَقِيلَ يَقُولُ مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ . قَالَ وَلَا أَصْلَ لِمَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ اسْتِكْمَالِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَكَذَا الْعُدُولُ عَنْ الْحَمْدِ إلَى أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَمْدِ فَمَكْرُوهَةٌ , وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ ابْنَهُ عَطَسَ فَقَالَ: أَبْ , فَقَالَ: وَمَا أَبْ؟ إنَّ الشَّيْطَانَ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعَطْسَةِ وَالْحَمْدِ . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ أش بَدَلَ أَبْ . فَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ يَزِيدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ , أَوْ عَلَى كُلِّ حَالٍ , وَمَا كَانَ أَكْثَرَ ثَنَاءً كَانَ أَفْضَلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا . وَإِنَّ حَمْدَهُ إذَا عَطَسَ سُنَّةٌ , وَتَشْمِيتُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ , وَإِجَابَةُ الْمُشَمِّتِ فَرْضُ عَيْنٍ مِنْ الْوَاحِدِ وَمِنْ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ عَطَسَ جَمَاعَةٌ فَشُمِّتُوا فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ خِلَافًا لِظَاهِرِ الدَّلِيلِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ فَرْضُ عَيْنٍ . قَالَ الْإِمَامُ بْنُ الْقَيِّمِ: وَلَا دَافِعَ لَهُ . انْتَهَى . لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ يَرْحَمُك اللَّهُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ يَرْحَمُك اللَّهُ " .
(الثَّانِيَةُ) لَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ , نُصَّ عَلَيْهِ . وَهَلْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ؟ أَقْوَالٌ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الْكَافِرِ , فَإِنْ شَمَّتَهُ أَجَابَهُ بِآمِينَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ تَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَالَ " كَانَ الْيهَوُدُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ , فَكَانَ يَقُولُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ " قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: نَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ . قَالَ الْقَاضِي: عَدَمُ التَّشْمِيتِ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ لَهُ فَهُوَ كَالسَّلَامِ , يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ إنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ شَيْئًا تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ: إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ , وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ , وَإِذَا مَاتَ أَنْ يُشَيِّعَهُ , وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ , وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ , وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ " فَلَمَّا خَصَّ الْمُسْلِمَ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ بِخِلَافِهِ . وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ إلَّا قَوْلَهُ " حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ " وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " حَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " فَذَكَرَهُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: التَّخْصِيصُ بِالْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ إنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي النَّصِيحَةِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لَا يَنْفِي جَوَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ مِنْ اسْتِحْبَابٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ كَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ . وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يُكْرَهُ , قَالَ وَكَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ إنَّمَا يَنْفِي الِاسْتِحْبَابَ . فَإِذَا كَانَ فِي التَّهْنِئَةِ وَالتَّعْزِيَةِ وَالْعِيَادَةِ رِوَايَتَانِ فَالتَّشْمِيتُ كَذَلِكَ . انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الْعَاطِسَ إذَا نَسِيَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ لَمْ يذكر , وَبِهِ جَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ . وَفِي الْغَايَةِ وَلَا يذكر نَاسٍ وَلَا بَأْسَ بِتَذْكِيرِهِ . وَاحْتِمَالُ إرَادَةِ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ وَأْمُرْهُ يَحْمَدْ الصَّبِيَّ وَالْكَبِيرَ إذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى إمَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله بَعِيدٌ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ لِلطِّفْلِ كَمَا لَا يَخْفَى . نَعَمْ يُعَلَّمُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَنَحْوُهُ الْحَمْدَ كَصَغِيرٍ . وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: (الْأُولَى) إذَا تَرَك الْعَاطِسُ الْحَمْدَ هَلْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ؟ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يُذَكِّرُهُ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ بَلْ يُذَكِّرُهُ ; لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّخَعِيِّ وَهُوَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَظَاهِرُ السُّنَّةِ تُقَوِّي قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُشَمِّتْ الَّذِي لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُذَكِّرْهُ . وَهَذَا تَعْزِيرٌ لَهُ وَحِرْمَانٌ لِتَرْكِهِ الدُّعَاءَ لَمَّا حَرَمَ نَفْسَهُ بِتَرْكِهِ الْحَمْدَ فَنَسِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَصَرَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنْ تَشْمِيتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ , وَلَوْ كَانَ تَذْكِيرُهُ سُنَّةً لَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِفِعْلِهَا وَتَعْلِيمِهَا وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا . (الثَّانِيَةُ) أَنَّ الْعَاطِسَ إذَا حَمِدَ اللَّهَ فَسَمِعَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ دُونَ بَعْضٍ هَلْ يُسَنُّ لِمَنْ يَسْمَعُهُ تَشْمِيتُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ , وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُشَمِّتُهُ . انْتَهَى . قُلْت وَالْمَذْهَبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَشْمِيتَهُ عَلَى مَنْ سَمِعَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا , وَإِلَّا فَفَرْضُ عَيْنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ الْكُبْرَى فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَذْكِيرُ مَنْ نَسِيَ حَمْدَ اللَّهِ . قَالَ الْمَرْوَذِيُّ: إنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه فَلَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَانْتَظَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ فَيُشَمِّتُهُ , فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: رضي الله عنه كَيْفَ تَقُولُ إذَا عَطَسْت؟ قَالَ أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ , فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَرْحَمُك اللَّهُ . قَالَ فِي الْآدَابِ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا سَبَقَ يَعْنِي مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ كَانَ يَذْكُرُ خَبَرَ مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنْ الشَّوْصِ إلَخْ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ قَالَ وَهُوَ مُتَّجَهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
|